- الباب الفقهي
- الجنايات والعقوبات
- المفتي
- الشيخ الدكتور عبد الستار عبد الجبار
- عنوان الفتوى
- إسقاط الجنين في الشريعة الإسلامية
- السؤال
- إسقاط الجنين في الشريعة الإسلامية؟
- الجواب
-
حياة الجنين وأطوارها في رحم الأم كما ذكرها القرآن الكريم والسنة المطهرة تمر بعدة أطوار هي: طور النطفة أربعون يوماً، ثم طور العلقة أربعون يوماً ثم طور المضغة أربعون يوماً ثم طور نفخ الروح؛ وذلك بعد مرور مائة وعشرين يوماً كما في حديث إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلك ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلك ثُمَّ يَبْعَثُ الله مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ له: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أو سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ... () وفي هذا الطور الأخير يكون التكريم الإنساني لأن نفخ الروح هو سر إنسانية الإنسان، مع وجود الحياة قبل النفخ إلا أنها حياة غير إنسانية. وتثبت للجنين خلال هذه الأطوار حقوقٌ شرعيةٌ متعددةٌ كحقِه في الإرثِ والوصيةِ والهبةِ، وحقهِ في الحياةِ وإثباتِ النسبِ، على تفصيلٍ وخلافٍ بينَ الفقهاءِ. وفي موضوع إسقاط الجنين تثارُ عادةً مسائلُ رئيسة: الأولى: ما حكم الإسقاط قبل نفخ الروح؟ الثانية: ما حكم الإسقاط بعد نفخ الروح؟ الثالثة: ما حكم إسقاط الجنين المشوه؟ المسألة الأولى: في حكم الاسقاط في طور ما قبل نفخ الروح؛ وقد اختلف الفقهاء في حكم الإسقاط في هذه المرحلة على ثلاثة أقوال هي: الأول: التحريم وهو قول جمهور المالكية وبعض الحنابلةِ، واستدلوا بقول أبي هريرة أن رسول الله قضى في جنين امرأة من بني لحيان بغُرةٍ عبدٍ أو أمة(). والجنين اسم لما في البطن، وفي إيجاب الغرة دليل على أنه محترم يأثم المتعدي عليه، ولا يجوز إسقاطه. وكلامُهم صحيحٌ ولكن قدْ يحملُ على الجنينِ بعدَ النفخِ للأدلةِ، وقد يحملُ أيضاً على أنَّ الغرةَ لحقِ الأبِ في الجنينِ وليسَ لآدميتِه لأنَّ هدرَ الآدميةِ فيه الديةُ وليس الغرة. الثاني: الإباحةُ لعذرٍ وقالَ به الحنفيةُ() وجمهورُ الشافعيةِ وبعضُ الحنابلةِ، واستدلوا بحديثِ جمعِ الخلقِ المتقدمِ؛ الذي يفسرُ مرحلةَ الخلقِ الآخَرِ المذكورةِ في قولِه تعالى ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ المؤمنون14 أي بعدَ نفخِ الروحِ والتحولِ للآدميةِ المُكَرمةِ. وقالوا أيضاً: أن الجنين الذي لم تحلّ فيه الروح لا حرمة في إسقاطه، والجنين الذي لم يتخلق بحلول الروح لم تتحقق آدميته()، وإذا لم يكن كذلك فلا حرمة له ومن ثم يجوز إسقاطُه للعذرِ. الثالث: الجواز في مرحلة النطفة فقط وهو قولُ بعض الحنابلةِ، فقد ذكر المرداوي (يَجُوزُ شُرْبُ دَوَاءٍ لإِسْقَاطِ نُطْفَةٍ)() أي للمرأة، وقال ابن الْجَوْزِيِّ(): يَحْرُمُ. وَظَاهِرُ كَلامِ ابن عَقِيلٍ جوازُ إسْقَاطِه قبل أَنْ يُنْفَخَ فيه الرُّوحُ().. فالحنابلة رويت عنهم الأقوال المتقدمة ثلاثتها والأول هو الراجح عندهم. ويؤيد هذا رواية لمسلم إذا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ اثنتان وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ الله إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ قال: يا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فيقضي رَبُّكَ ما شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ. ثُمَّ يقول: يا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فيقول رَبُّكَ ما شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ. ثُمَّ يقول: يا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فيقضى رَبُّكَ ما شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ في يَدِهِ فلا يَزِيدُ على ما أُمِرَ ولا يَنْقُصُ(). وهو على كل حال وفي كل الأقوال أقلُ منَ الإجهاضِ بعدَ نفخ الروح في حكمه وحقيقته، مع ما فيه من تعرض لشيء له حرمة، فقد أخر الشرع تنفيذ الحد على الحامل من الزنا حتى تضع حملهَا احتراماً لحقِ الحملِ. فلا ينبغي إسقاطُ الحملِ في مختلفِ مراحلِه، إلا لمبررٍ شرعي وفي حدودٍ ضيِّقةٍ جداً تقدرُ بقدرِها، إن كانَ الحملُ في أطوارِ ما قبلِ نفخِ الروحِ، وكانَ في إسقاطِه مصلحةٌ شرعيةٌ أو دفعُ ضررٍ متوقعٍ. وإسقاطُه في هذه المدة خشية المشقة في تربية الأولادِ، أو خوفاً من العجزِ عن تكاليف معيشتِهم أو تعليمهم، أو من أجل مستقبلِهم، أو اكتفاءً بما لدى الزوجينِ من أولادٍ غيرُ جائزٍ، وعلى من مارسَ الإجهاضَ بهذه المبررات التوبة إلى الله تعالى والاستغفار. المسألة الثانية: أسقاط الجنين بعد النفخ؛ وقد أجمع فقهاء المذاهب() على حرمة قتل الجنين بعد نفخ الروح فيه بمرور مائة وعشرين يوماً على الحمل إلا إذا كان استمرار الحمل يؤدي إلى وفاة الأم. وقالوا: إن الجنين قد أصبح إنساناً مكرماً ونفساً لها حرمتُها فهو مكرم لهذه النفخة؛ قال الله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ الإسراء70 وقال سبحانه مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً المائدة32. فالإجهاضُ بعدَ نفخِ الروحِ جريمةٌ لا يجوزُ الإقدامُ عليها إلا عندَ الضرورةِ القصوى المتيقنةِ وليستْ المتوهمةِ، وهي ما إذا كانَ بقاءُ الجنينِ يهددُ حياةَ الأمِ، علماً أنَّه معَ تقدمِ الوسائلِ الطبيةِ الحديثةِ والإمكاناتِ العلميةِ الماديةِ المتوفرةِ؛ أصبح الإجهاضُ الآنَ لإنقاذِ حياةِ الأمِ أمراً نادرَ الحدوثِ. المسألة الثالثة: إسقاط الجنين المشوه؛ فمن النوازلِ المعاصرةِ التي استجدتْ في حياةِ الناسِ في المجالِ الطبي مسألةُ الكشف عن الجنين وإسقاطِ الجنينِ المشوهِ.. فإذا ثبت تشوه الجنين بصورة دقيقة قاطعة لا تقبل الشك من خلال لجنة طبية موثوقة، وكان هذا التشوهُ غيرَ قابلٍ للعلاجِ ضمنَ الإمكاناتِ البشريةِ المتاحةِ لأهلِ الاختصاصِ؛ فالراجحُ أن هذا عذر في إباحةِ إسقاطِه خلالَ مرحلةِ ما قبل نفخِ الروحِ؛ نظراً لما قد يلحقُه من مشاقٍ وصعوباتٍ في حياتِه، وما يسببُه لذويهِ من حرجٍ، وللمجتمعِ من أعباءٍ ومسؤولياتٍ وتكاليفَ في رعايتِه والاعتناءِ به. والجنين المشوه هنا لا يقصد به المصاب بالعمى أو البكم أو الصمم؛ فهذه عاهات عرفتها البشرية وتعاملت معها وتطورت في تذليل صعابها إلى حدٍ كبير، بل يقصد به التشوهات الخَلقية نتيجة تلوث البيئة، وكثرة الإشعاعات الضارة التي أخذت تنتشر في الأجواء، والتي لم تكن معروفة من قبل، ونتيجةَ الحروبِ العدوانيةِ التي تستعملَ فيها الأسلحةَ المحرمةَ (كالفسفوريةَ واليورانيوم). وقدْ جاءَ في قرارِ مجمعِ الفقه الإسلامي في مكة دورة/12 المنعقدة في مكة المكرمة، في 15 رجب 1410هـ-10/2/1990م (إباحة إسقاط الجنين المشوه بالصورة المذكورة أعلاه، وبعد موافقة الوالدين، في الفترة الواقعة قبل مرور مائة وعشرين يومًا من بدء الحمل). أما إذا كان الجنين المشوه قد نُفخت فيه الروح، وبلغ مائة وعشرين يوماً، فإنه لا يجوز إسقاطه مهما كان التشوه، إلا إذا كان في بقاء الحمل خطر متحقق على حياة الأم، وذلك لأن الجنين بعد نفخ الروح أصبح نفساً، تجبُ صيانتُها والمحافظةُ عليهَا، سواءٌ كانتْ سليمةً منَ الآفاتِ والأمراضِ، أم مصابةً بشيءٍ منْ ذلكَ، وسواء رُجي شفاؤها مما بها أم لم يرجَ، لأنَّ اللهَ له في كلِ ما خلقَ حِكمٌ لا يعلمُها كثيرٌ من الناسِ، وهوَ أعلمُ بمَا يصلحُ خلقَه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الملك14. ومما يستأنس به هنا ما أخبرنا به المصطفى عن نبي الله سُلَيْمَانُ حين قال لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ على مِائَةِ امْرَأَةٍ أو تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ فقال له صَاحِبُهُ: قل إن شَاءَ الله، فلم يَقُلْ إن شَاءَ الله فلم يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لو قال إن شَاءَ الله لَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَاناً أَجْمَعُونَ(). فربما يكون السبب الغيبي للعوق عدم ذكرالله كما في إشارة هذا النص، وعلى كل حال لم تذكر القصة أن سليمان تخلص منه لأنه مشوه أو معوق. ونقل الشيخ القرضاوي عن بعض المعاصرين صورة للجواز وهي (أن يثبت بطريقة علمية مؤكدة أنَّ الجنين وفقاً لسنن الله سيتعرض لتشوهات خطيرة تجعل حياته عذاباً عليه وعلى أهله وفقاً لقاعدة "الضرر يدفع بقدر الإمكان" وينبغي أن يقرر ذلك فريق طبي لا طبيب واحد)(). وفي ولادة هؤلاء المشوهين موعظةٌ لأهل العافية، وفيها معرفةُ قدرةِ الله ؛ حيث يرى الخلقُ مظاهرَ القدرةِ، فالتشوهاتُ الخلقيةُ قدرٌ أرادَ الله أنْ يبتليَ بهِ بعضَ عبادِه، فمن صبر ورضيَ فلهُ الرضا؛ ومن سخطَ فعليهِ السخطُ، وهي أمور تحدث على مرِّ التاريخِ. ومن المؤسفِ والمؤلمِ أنَّ الدراساتِ تدلُ على أنَّ نسبة الإصابة بالتشوهات الخلقية في ازدياد، وذلك نتيجة تلوث البيئة، وكثرة الإشعاعات الضارة التي أخذت تنتشر في الأجواء، والتي لم تكن معروفة من قبل. ولأهلِ بلدِنا الجريحِ نصيبهُم من هذا البلاءِ نتيجةَ الحربِ العدوانيةِ التي شنَّها المحتلُ وأعوانُه، واستعملَ فيها الأسلحةَ المحرمةَ (الفسفوريةَ واليورانيوم) وهذا قدرنا ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن رحمة الله بالناس أن جعل مصير العديد من الأجنة المشوهة إلى السقوط والموت قبل الولادة. والمرأة المسلمة؛ والأسرة التي تبتلى بهذا البلاء مطالبة بالصبر على ما أصابها، واحتساب ذلك عند الله. وقد ورد عن النبي أنه قال ابْغُونِي الضُّعَفَاءَ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ() فهم سبب نزول الرزق؛ وهم سبب نزول النصر مع ضعفهم، وما أحوجنا اليوم إلى النصر والرزق، والله أعلم.
- الموضوع الفقهي
- إسقاط الجنين في الشريعة الإسلامية
- عدد القراء
- 160