- الباب الفقهي
- البيوع والتعاملات المالية
- المفتي
- المجمع الفقهي
- عنوان الفتوى
- العقود الالكترونية
- السؤال
- ما حكم العقود الالكترونية؟ وهل يصح مجلس العقد في هذا النوع من العقود ؟
- الجواب
-
بسم الله والخمد لله والصلاة والسلام على رسو الله وعلى آله وصحبه وسلم.
إنّ مسألة العقود الالكترونية التي تجري عبر الوسائط من الأجهزة الحديثة تعد من المستجدات في عصرنا، وهي تندرج ضمن ما أطلق عليه التجارة الالكترونية. وهي لا تخلو من أحدى الصور الآتية:
ان يجري العقد عبر هذه الأجهزة كتابة من خلال رسالة نصية، أو مكالمة صوتية، أو مكالمة صوت وصورة، وقد ذكر الفقهاء صورا تقترب منها. ففيما يتعلق بحكم التعاقد بطريق الكتابة: اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم التعاقد بطريق الكتابة على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، إلى أن الكتابة كالخطاب؛ فالتعاقد بها جائز سواء أكان العقد بين حاضرين أم بين غائبين، وسواء أكان المتعاقدان قادرين على النطق أم عاجزين عنه، لكنهم استثنوا من ذلك عقد النكاح لخصوصيته واشتراط الشهود فيه، واستدلوا بأن الكتابة هي وسيلة من وسائل التعبير عن الإرادة كالخطاب، وقد روى البخاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب الملوك والقادة ودعاهم إلى الدخول في الإسلام عن طريق الكتابة، فإذا كانت الكتابة صالحة لنشر الدعوة الإسلامية فكيف لا تكون صالحة لإنشاء العقود؟. وقيده بعض فقهاء الشافعية بمن كان عاجزًا عن النطق والكلام فقط، واستدلوا بأن الكتابة ليست وسيلة من الوسائل المعتبرة في التعبير عن الإرادة لاحتمال التزوير وتحسين الخط.
وذهب فقهاء الحنفية إلى أن الكتابة تنـزل منـزلة الخطاب بالنسبة للغائبين فقط، ولم يستثنوا من ذلك حتى عقد النكاح، واستدلوا إلى إن الحاجة ماسة بالنسبة للغائبين دون الحاضرين، فيترخص للغائبين دون غيرهم، فلماذا يلجأ إليها الحاضران وهما قادران على النطق الذي هو أقوى. ونرجح ما ذهب إليه الجمهور؛ لقوة أدلتهم وإتفاقه مع قواعد الشريعة وأصولها القاضية برفع الحرج، ومواكبة المستجدات، وكون الشريعة صالحة لكل عصر ومصر، وأن الأصل في العقود التراضي دون النظر إلى التقيد بصورة محددة، لقوله تعالى: ﴿ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾(1)، ولم تفصل النصوص وسائل التعبير عنها فيناط بيانها حينئذ بالعرف، وهو معتد به عند فقهاء المذاهب،( يقول ابن نجيم: واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلاً)*، ويقول الدسوقي: (والحاصل أن المطلوب في انعقاد البيع ما يدل على الرضا عرفًا)(2)
وجاء في شرح المهذب: ولم يثبت في الشرع لفظ لـه -أي للعقد- فوجب الرجوع إلى العرف فكل ما عده الناس بيعًا كان بيعًا ، ويقول ابن قدامة: (إن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف)*. وقد جرى العرف قديما وحديثًا على اعتماد الكتابة للتعبير عن الرضا والإرادة، ولذلك فهي صالحة لإنشاء العقود. وأما احتمال التزوير أو التقليد فيها: فإن ذلك الاحتمال يتلاشى مع دخول القرائن، فضلا عن أن هذا الكلام يدور حول عملية الإثبات ونحن نتحدث عن الكتابة كونها وسيلة من وسائل التعبير عن الإرادة وليس عن الإثبات. وأما مسألة العقود عبر جهاز الهاتف وبالصوت فقط، فقد ذكر الفقهاء السابقون صورا تقترب من ذلك كالعقد بين شخصين بعيدين لا يرى أحدهما الآخر، ولكنه يسمعه، جاء في المجموع: (لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف، أو وجود ساتر بين العاقدين لا يؤثر حتى في خيار المجلس، فكيف يؤثر في إنشاء العقد ) (4)
وعلى ضوء ذلك فان هذه الصورة من التعاقد، إذا تم فيه الإيجاب والقبول مع بقية الشروط المطلوبة فإنه صحيح لا غبار عليه، غير أن عدم رؤية أحدهما للآخر يجعل احتمال التزوير وتقليد صوت شخص آخر واردا، ولذلك إذا صار النزاع حول ذلك فالقضاء هو الفيصل، وتسمع دعوى من يدعي ذلك ولكن عليه يقع الإثبات. أما عدم رؤية أحدهما للآخر فليس لـه علاقة بصحة العقود أو عدمها؛ لأن المطلوب في باب العقود سماع الإيجاب والقبول والتقاؤهما، أو إدراكهما بأي وسيلة كانت ومن جانب آخر، إن الأساس في العقود هو صدور ما يدل على الرضا بصورة واضحة مفهومة كما دلت على ذلك نصوص الفقهاء، وذلك متحقق في المهاتفة؛ حيث إِن التعبير يتم من خلال اللفظ الذي هو محل الاتفاق بين الفقهاء، وما الهاتف إلا وسيلة لتوصيل الصوت فحسب، وليس وسيلة جديدة، فالقاعدة الأساسية في العقود تحقيق الرضا للطرفين والتعبير عنه، وإظهاره بأي وسيلة مفهومة كما أن العرف لـه دور أساسي في باب العقود. وأما مسألة إجرائه عبر الأجهزة الالكترونية بالصوت والصورة فهو من باب أولى وأوثق مما جاء في الصورة السابقة، وفي الفقه الإسلامي صورة تقترب من ذلك، وهي التعاقد أثناء المشي أو المسير جاء في الفتاوى الهندية)*:
وإن تعاقدا على بيع وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة أو دابتين فإن أخرج المخاطب جوابه متصلاً بخطاب صاحبه تم العقد بينهما، وإن فصل عنه -وإن قل- فإنه لا يصح وإن كانا في محل واحد، فهذا النص وغيره يشير إلى أن العقد بين الماشيين أو الراكبين هو عقد فوري لا خيار فيه لمن وجه إليه الخطاب بخلاف العقد بين الجالسين وعليه يمكننا القول إنه يجب على القابل في العقد المبرم من خلال الهاتف المرئي إعلان قبوله فور صدور الإيجاب ولا يحق لـه تأخيره قياسًا على المتعاقدين الماشيين أو الراكبين؛ ذلك لأن احتمال انقطاع الاتصال بينهما وارد في كل لحظة وعند ذلك يسقط حقه في إعلان قبوله على الإيجاب الموجه إليه، أما إذا انقطع الاتصال بينهما حتى -وإن كان انقطاعه خارجًا عن إرادتهما- وأبدى القابل رغبته في عقد الصفقة أعاد المكالمة ثانية، فإن قبوله في هذه الحالة يكون إيجاباً جديدًا يتوقف نفاذه على قبول الطرف الآخر على رأي الفقهاء القائلين بجوار صدور الإيجاب من أي طرف من أطراف العقد؛ ذلك لأن التعاقد من خلال الهاتف هو عقد متجدد يسقط فيه خيار القبول أساسًا على التعاقد بين الماشيين أو الراكبين.
وأما ما يتعلق بمجلس العقد في العقود الالكترونية، فقد عالج الفقهاء السابقون هذه المسألة عند بحثهم مجلس العقد بين الغائبين سواء كان هذا عن طريق الكتابة أو الرسول، فقد صرح الحنفية بأن الأصل هو اتحاد المجلس بأن يقع الإيجاب والقبول في مجلس واحد، ولكن مجلس التعاقد بين الغائبين هو مجلس وصول الخطاب أو الرسول، قال الكاساني: وأما الكتابة فهي أن يكتب الرجل إلى الرجل: أما بعد فقد بعت عبدي فلانًا منك بكذا فبلغه الكتاب، فقال اشتريت؛ لأن خطاب الغائب كتابة، فكأنه حضر بنفسه وخاطب بالإيجاب وقبل الآخر في المجلس)*، ويقول النووي: وإن قلنا: يصح -أي البيع بالكتابة- فشرطه أن يقبل إليه بمجرد اطلاعه على الكتابة... وإذا صححنا البيع بالكتابة جاز القبول بالكتب وباللفظ، ذكره إمام الحرمين وغيره )(8).
ويظهر من خلال هذه النصوص الفقهية وغيرها أن مجلس العقد بالنسبة للتعاقد عبر الوسائل الإلكترونية هو مجلس وصول الخطاب، فإذا وصل وقرأه وقال قبلت أو كتب الموافقة فقد انعقد العقد. وأما عن وقت تمام العقد وانقضاء خيار المجلس، وهذا الخيار يعني أن لكل عاقد الحق في فسخ العقد ولو بعد إبرامه ما داما في مجلس واحد، فإذا انفض المجلس بطل الخيار، وللفقهاء قولان :
الأول: إتمام العقد وخياره ينتهي بمجرد القبول الصادر من الشخص الموجه إليه، فالتفرق هو بالأقوال، وهو قول الحنفية والمالكية، فيكون مجلس وصول الخطاب هو مجلس العقد يقول المرغناني الحنفي: والكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة، وقال العيني: وصورة الكتابة أن يكتب إلى رجل... فلما بلغه الكتاب وقرأه وفهم ما فيه قبل في المجلس صح البيع)(9)، وأما المالكية فإن البيع ونحوه ينعقد بمجرد القبول بعد صدور الإيجاب ولم يشترطوا علم الموجب بقبول القابل حتى يتم العقد.
والثاني: إن إتمام العقد وخياره ينتهي بتفرق الأبدان، وذهب إليه الشافعية والحنابلة، قال الغزالي في الفتاوى: إذا صححنا البيع بالكتابة فكتب إليه، فقبل المكتوب إليه ثبت لـه خيار المجلس مادام في مجلس القبول، قال: ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد البيع )(10).
وعليه فإن مجلس العقد المبرم من خلال أجهزة الاتصال (المسموعة والمرئية ) ينعقد بالنسبة للمسموعة من حين صدور الإيجاب أثناء المكالمة، وأنه يستمر ويبقى ما دام الكلام موصولاً بينهما، يحق فيه للموجب الرجوع عن إيجابه مادام أنه لم يقترن به قبول الطرف الآخر، ويبقى مجلس العقد قائما مادامت المكالمة بينهما مستمرة، فإذا ما انقطعت المكالمة من قبلهما أو من قبل أحدهما، أو قطعت من قبل غيرهما، وكان العقد تاما اقترن فيه القبول بالإيجاب فإن العقد يكون حينئذ تاما ولازما لكلا الطرفين، ولا يحق لأي منهما الرجوع فيه. أما إذا انقطعت المكالمة لأي سبب من الأسباب بعد صدور الإيجاب وقبل قبول الطرف الآخر، فإنه يحق للموجب أيضًا الرجوع عن إيجابه ما دام أنه لم يقترن به قبول الطرف الآخر. أما الطرف الآخر الموجه إليه الإيجاب، فإنه لا يحق لـه الرجوع عن القبول حتى ولو تم ذلك من خلال نفس المكالمة؛ ذلك لأن هذا العقد من العقود المتعددة التي يسقط فيها خيار القبول قياسا على العقد بين الماشيين أو الراكبين.
أما إذا كان الاتصال بالصوت والصورة معا، كما في الأجهزة الحديثة أو عبر شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)، فإن مجلس التعاقد فيه لا يختلف من حيث انتهاؤه عن مجلس العقد بين المتباعدين اللذين يرى كل منهما صاحبه أثناء التعاقد، ويمتد بينهما ما دام أنه لم يفارق أحدهما مكان العقد. مع التنويه بأن العقود التي تجري عن طريق أجهزة الاتصال، إنما تصح فيما لا يشترط فيه القبض الفوري، كالأموال الربوية .
والله أعلم.
(1)سورة النساء الآية: 29 .
(2)الأشباه والنظائر، لابن نجيم الحنفي، ص 79، وكذلك الاشباه والنظائر للسيوطي، ص 90
(3)الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي، ج3/ 4.
(4) المجموع شرح المهذب، لمحي الدين النووي، 9/ 163.
(5) المغني لابن قدامة المقدسي، 3/ 481.
(6) المجموع شرح المهذب، لمحي الدين النووي، 9/181
(7)الفتاوى الهندية، لجنة من علماء الهند برئاسة نظام الدين البلخي، 3/ 8.
(8)بدائع الصنائع، لعلاء الدين بن مسعود الكاساني، 5/ 138.
(9) المجموع شرح المهذب، لمحيي الدين النووي، 9/ 167.
(10)البناية شرح الهداية لبدر الدين العيني، 8/ 8.
(11) ينظر: المجموع شرح المهذب، 9/168.
- الموضوع الفقهي
- العقود الالكترونية
- عدد القراء
- 223