- الباب الفقهي
- فتاوى أخرى
- المفتي
- الشيخ الدكتور أحمد حسن الطه
- عنوان الفتوى
- إتخاذ مذهب معيّن
- السؤال
- هل يجب تقليد مذهب معين، أم يجوز لنا أن نأخذ من الكل ولا نلتزم بمذهب معين؟
- الجواب
-
إن اتخاذ مذهب معين من أئمة المسلمين الذين ثبت رسوخهم في العلم وتقواهم وعدالتهم يختلف حكمه باختلاف الناس، لأن الناس صنفان: مجتهد ومقلِدّ: فالمجتهد لا يجوز أن يقلد مجتهداً آخر، لأنه مؤهل لأخذ الحكم الشرعي من أصوله فلا يعتمد قول غيره ما لم يكن نبياً معصوماً من الخطأ لنزول الوحي عليه، وقد انقطع نزوله بوفاة رسول الله ﷺ الذي ختم الله تعالى به النبوة.
والمجتهد له مؤهلات وشروط أهمها:
1. المجتهد من علم أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة وأحاط بآيات الأحكام ودقائقها والعام منها والخاص، وما خصصته السنة، وأن يعلم الناسخ والمنسوخ منه، مُطّلعاً على أسباب النزول، وملماً بما فسره النبي ﷺ والصحابة رضي الله عنهم.
كما يجب أن يكون المجتهد عالماً بالسنة القولية والفعلية والتقريرية، والمناسبة والحالة التي قيلت فيها، كما يجب أن يعلم الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد، وأن يعرف طرق الرواية وإسناد الأحاديث وأحوال الرجال الذين نقلوا الأحاديث.
2. أن يكون المجتهد على علم باللغة العربية لأن القرآن الذي نزل بهذه الأحكام عربي بلغ ذروة الكمال وغاية الإعجاز، فمن لم يكن بارعاً بهذه اللغة وفنونها وأساليبها كان قاصراً عن إدراك الحكم الشرعي الذي يمكن استنباطه من الآية والحديث والقصص القرآني.
3. أن يكون للمجتهد معرفة بما حصل عليه الإجماع من القضايا وما حصل فيه الاختلاف لئلا يقول بما يخالف الإجماع فيشذ ويتبع غير سبيل المؤمنين.
4. أن يكون عالماً بأوجه القياس وطرائقه كما يقرر الشافعي ذلك ويجب أن يعرف مقاصد الأحكام.
5. أن يتوفر عند المجتهد حسن النية والإخلاص وسلامة الاعتقاد، لأن شريعة الله نور لا يدركه إلا من أشرق قلبه بالإخلاص، ولذا نجد الأئمة المجتهدين كانوا ممن اشتهروا بالورع قبل أن يشتهروا بالفقه وأخبارهم مملوءة بالنور والمعرفة.
والمقلّد: عند الأصوليين: مَن يأخذ بقول غيره- ممن ليس قوله حجة- من غير شرط معرفة الدليل، إذاً فهو غير المجتهد المتقدم ذكره، فهو مضطر إلى السؤال والأخذ بقول أهل الذكر من العلماء، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾*
فالله تعالى أمر من لا يعلم أن يسأل من يعلم، لأن الناس فيهم العالم والجاهل، فيجب على الجاهل أن يسأل العالم فيما يحتاجه وهذا دليل على وجوب تقليد الجاهل للعالم فيما يَسْأَله عنه، وإلا لما كان لأمر الله بالسؤال- فاسألوا- فائدة!
ثم إن مرتبة الاجتهاد المطلق لا يوصل إليها إلا بصرف العمر من حاد الذهن، فلو أوجبه الله على كل الناس لما أطاقه إلا قلة منهم فليس من الحكمة ولا من الرحمة القول بهذا، ثم من يقوم بالزراعة والصناعة والجهاد لو قلنا بهذا؟ ومعظم الصحابة كانوا مقلدين للفقهاء منهم في أمور دينهم، وأحياناً يجيب الصحابي المجتهد في المسألة بجواب يخالف جواب صحابي آخر عُرف بالفقه والاجتهاد، ولو جاز لغير منْ بلغ درجة الاجتهاد أن يجتهد لأصبح دين الله فوضى، ولمَا كانَ معنى للآية: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
وأما قول السائل: (نأخذ من الكل) فهذا أمر يحتاج إلى شيء من الوعي: فالأخذ من الكل واجب إن كان هناك إجماع وإن حصل بين المجتهدين في المسألة خلاف فعلى المسلم إن أخذ بقول أي مجتهد في المسألة أن يدرك الأصل الذي بنيت عليه والشروط التي اعتمدها ذلك المجتهد ويراعي ذلك في عمله لئلا يخل بشرط فيفسد المشروط، وإلا كان عمله تلفيقاً وتلاعباً في دين الله تعالى، لا يدل على تقوى ولا على علم فضلاً عن الورع.
فمثلاً من صلى ولم يمسح من رأسه إلا شعرات معدودة- باعتبار أن الشافعي يجِيزُ هذا ولكنه لم يستر إلا السوأتين باعتبار أن الإمام مالكاً يرى أن ستر ما عداهما مما بين السرة والركبة واجب لكنه ليس شرطاً لصحة الصلاة، فبانكشاف ما عداهما تصح الصلاة مع الحرمة وارتكاب الإثم، ثم حصل لهذا المصلي أن قَبّل زوجته قبل الصلاة- باعتبار أن الحنفية وبعض الفقهاء لا يرون نقض الوضوء من تقبيل الزوجة، وانتهى من الصلاة في زعمه.
فالسائل إن قصد بقوله: (نأخذ من الكل) وصلى على نحو ما تقدم كانت صلاته باطلة عند عامة الفقهاء (إلا أن يكون الفاعل مجتهداً متمكناً بالصفة التي ألْمحنا إليها)، ولكن أين الدليل؟؟ ومَن قال بهذا؟؟.
وذلك لأن الشافعي وأبا حنيفة يريان ستر ما بين السرة إلى الركبة على الخلاف فيها وهذا لم يستر إلا السوأتين ومالك رحمه الله تعالى يرى وجوب مسح كل الرأس وهذا لم يمسح إلا شعرات كما يرى بطلان الوضوء من تقبيل الرجل زوجته وهذا قَبّلها، فلم تنعقد صلاته اتفاقاً، بل إن صلاته باطلة عند أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل رحمهم الله تعالى، علماً بأن لكل إمام منهم وجهة نظر وأدلة على كل جزئية قد يصعب على بعض الدارسين فهم الفكرة أصلاً، فضلاً عن طريقة استنباطها والأصول التي اعتمدها.
ولا حرج على المسلم أن يستفتي في مسألة الزكاة مثلاً مفتياً مالكياً فيفتيه بما يراه مالك، ولا يلزم من هذا أن يتحرى مذهب مالك في كيفيات الصلاة وصفتها، إذ لا علاقة بين المسألة والصلاة ولا بين مسألة عرضت للمقلد في الرضاعة فأفتي بما يراه الشافعي، ومسألة أخرى في البيوع يرى جمهور الفقهاء جوازها خلافاً للشافعي إذ لا علاقة بين الرضاعة والبيع، ولا يجب اتباع مذهب معين من المجتهدين في جميع هذه المسائل.
أما حكم القول: اللامذهبية قنطرة اللادينية فهذه عبارة صدرت عن بعض أهل العلم، ويقصدون بها أن الذي لا يروق له تقليد المجتهدين من الفقهاء المتفق على إمامتهم وورعهم، مع أنه لم يرزق حظاً من العلم يؤهله للاجتهاد سيقع في خطأ غير سائغ، لأن المجتهد المؤهل مأجور أصاب أم أخطأ لأن اجتهاده سائغ من المعتد بهم على الصحيح. أما من لم يكن مؤهلاً للاجتهاد فلا يسوغ له ذلك ولو أصاب فهو آثم، لأنه من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ومن هنا كان عدم تقيده بمذهب رفضاً للآية الكريمة، فهو ممن لا يعلم ولا يسأل به يجتهد على جهله، فيتوقع منه مصادمة النصوص التي يجهلها، ومن المحتمل أن يأتي بقول يخرق الإجماع ... الخ.
ويبدو أن الناس الآن يستثقلون اسم التقليد وينبغي أن لا يفهم هذا على عمومه، فلاشك أن الإبداع خير من التقليد فيما يمكن أن يكون خيره مؤكداً، كبعض النظريات الطبية والهندسية والتربوية، لا في كلها، أما الأمور والقضايا التي تستند إلى الحس أو الوصف المنضبط الذي يقرر العقل خطأ مخالفته أو خبر الله تعالى وحكمه الذي نزل بالحق فاستمرار اتباعه شرف، وتقليد الأواخر للأوائل إجماع تسالم عليه العقلاء.
والخروج عن هذا إبداع ومن مضاره الابتداع والاعتداء على الله بنسبة التشريع إليه بغير علم، فمن لم يكن من أهل الاجتهاد فادعى وجوب فعل شيءٍ مّا باجتهاده فمعناه أنه نسب إلى الله تعالى إثابة فاعله ومعاقبة تاركه، ولذلك قال سبحانه: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾*
وكما لا يجوز لغير الطبيب أن يصف للمرضى الدواء- بحجة أن التعليمات داخل علبة الدواء تقول: يعطى لمن يشعر بكذا من الآلام- ويتعاطى تخدير من يتصور حاجته إلى العملية الجراحية ثم يفتح جوفه.
كذلك لا يجوز لمن لم يكن مؤهلاً للاجتهاد أن يدعيه ويطلق أحكاماً ينسبها إلى شرع الله لم يسبقه إليها أحد من الأولين، بحجة أنه رجع إلى الكتاب والسنة وفهم هذا الفهم الذي خرق به إجماع العلماء، وخرج على مقاصد الشريعة السمحاء، ولذلك أفتى العلماء قديماً بوجوب الحجر على المفتي الماجن والطبيب الجاهل لئلا يكون المسلمون الضحية في إسلامهم وأجسامهم.
* سورة الأنبياء: 7.
*سورة النحل: 116.
- الموضوع الفقهي
- حكم اتخاذ مذهب معين
- عدد القراء
- 245