ممكن تبين لنا ما خطورة التكفير وما ضوابطه وموانعه في الإسلام؟ وبالتفصيل لعموم البلوى بهذا الأمر. جزاكم الله خيرا .
- الباب الفقهي
- العقائد
- المفتي
- الشيخ الدكتور ضياء الدين الصالح
- عنوان الفتوى
- التكفير
- السؤال
- ممكن تبين لنا ما خطورة التكفير وما ضوابطه وموانعه في الإسلام؟ وبالتفصيل لعموم البلوى بهذا الأمر. جزاكم الله خيرا .
- الجواب
-
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن الإسلام دين الوسطية والإعتدال، وقد حرم الشرع الحكيم الاعتداء على المسلمين وغيرهم بشتى أنواع الاعتداءات، ومنها تحريم التكفير والنهي عنه.
وقد أجمع العلماء على أن التكفير حكم شرعي، مردّه إلى الله تعالى وإلى رسولهﷺ، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى اللّه ورسوله فكذلك التكفير، وكذلك ليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملَّة،ولمّا كان مَرَدّ حكم التكفير إلى اللّه تعالى ورسولهﷺ ؛ لم يَجُز أن يُكفَّر إلا مَن دَل الكتاب والسُّنَّة على كفْرِه دلالة واضحة بعد انتفاء المانع وقيام السبب وإقامة الحجة، ولكن مع الأسف أصبح من صغار طلبة العلم ومن العوام لا يتورعون عن تكفير المخالف؛ لأدنى شبهه وبمجرد الهوى والظنون والتخرصات!، بل وصل الأمر ببعضهم إلى تكفير رموز الأمة الأبرار من سلفنا الصالح المشهود لهم بالصحبة والإيمان والصلاح والإمامة، وفتنة التكفير هي الفتنة العظيمة التي مزقت جسد الأمة الإسلامية وهي أول البدع والفتن ظهوراً في الإسلام، فهي المنبع لكثير من الانحرافات العقائدية والسلوكية والخلقية و النفسية التي عانت منها الأمة المسلمة على مدى تأريخها، وما زالت الأمة تعاني منها إلى الآن.
وقد أجمع أهل العلم على أن الحكم بالتكفير على معين أو جماعة هو من اختصاص أهل الحل والعقد من الحكام والقضاة والأمراء المسلمين الذين يُقيمون الحدود، ومن العلماء الراسخين في العلم، لا من اختصاص صغار طلبة العلم وعوام الناس، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن، وذلك لِمَا يترتب على التكفير من الأحكام الخطِرة، كإباحة دم المسلم وماله، وتطليق زوجته، وقطع التوارث بينه وبين أقربائه وخلوده في النار، فضلا عن احتقار المسلمين له ومعاداتهم إياه لخروجه عن دينه، فلا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين وما إلى ذلك من أحكام تلحق المرتد .
وإذا كانت الحدود تدْرَأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يُدْرَأ بالشبهات؛ ولذلك حذَّر النبيّ -ﷺ - من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال في الصحيحين: (( أيُّما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه))، وقوله ﷺ في صحيح البخاري: (( وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ)).
وقد يَرِد في الكتاب والسُّنَّة ما يُفْهَم منه أن هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كُفْر، ولا يكفَّر مَن اتصف به، لوجود مانع يمنع من كفره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى [12/487] :( التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعيّن، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعيّن، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، يبيّن هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفّروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه)، وقال أيضا:( وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتُبيّن له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ).
وقال الإمام ابن عبد البر في التمهيد [17/21]: (فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين ثم أذنب ذنبا أو تأول تأويلاً فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحداً لا يخرجه ذنبه وإن عظم من الإسلام وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا أن اتفق الجميع على تكفيره أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنّة).
وأما ضوابط التكفير: فقد نص العلماء الأجلّاء على أن التكفير حكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها، وقد ينطق المسلم بكلمة بالكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد، والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيره مما يترتب على الرِّدَّة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يُقْدِم عليه لأدنى شبهة.
ومما يدل على احتياط الشرع في مسألة التكفير ومبالغته في ذلك، إيجابه التحقق من وجود شروط التكفير وانتفاء موانعه، فلا يجوز تكفير معين إلا بعد التحقق من ذلك تحققاً شديداً بعيدا عن التعصب والهوى، فمن هذه الشروط:
1-أن يكون عالماً بتحريم هذا الشيء المكفِّر.
2-وأن يكون متعمداً لفعله.
3-وأن يكون مختاراً لا مكرها.
وأما موانع التكفير عند العلماء فهي:
1-الجهل: وهو خلو النفس من العلم، فيقول قولاً أو يعتقد اعتقاداً غير عالم بحرمته، كمن يعتقد أن الصلاة غير واجبة عليه، أو أن الله غير قادر على حشر الأجساد إذا تفرقت، والسبب وراء ذلك جهله بوجوب الصلاة وقدرة الله جلا وعلا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ ﷺ قال: ((كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا متُّ فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا، فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال ما حملك على ما صنعت ؟ قال: يا رب خشيتك فغفر له ))رواه البخاري .
فهذا رجل جهل قدرة الله جلا وعلا فظن أنه إذا أحرق ونثر رماده في البر والبحر فإن الله لا يقدر على جمعه، ولا شك أن الشك في قدرة الله جلا وعلا، والشك في البعث كفر، ولكنه لما كان جاهلا غفر الله له،وليعلم أن العذر بالجهل إنما يقبل في حق من كان في محلٍّ أو حالٍ هو مظنة أن يجهل هذه الأحكام كمن نشأ في بادية بعيدة أو كان حديث عهد بكفر، أما من عاش بين المسلمين، يحضر صلواتهم ويسمع خطبهم، ثم يجهل شيئا من أصول الدين أو أمراً معلوماً منه بالضرورة فلا يعذر بجهله؛ لأنه متسبب في وجود جهله وعدم إزالته.
2-الخطأ: وهو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غيرَ ما قصد، كمن يريد رمي غزالٍ فيصيب إنساناً، أو كمن يريد رمي كتاب كفر فيرمي كتاب الله جلَّ وعلا، والأدلة على العذر بالخطأ كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُم﴾ [الأحزاب :5 ] ومن الأحاديث المشهورة في العذر بالخطأ، قوله: (ﷺ): ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) رواه ابن ماجة وصححه الألباني وهذه الأدلة عامة في العذر من عموم الخطأ، وثمة دليل خاص يدل على العذر من الخطأ في مسائل الكفر، وهو ما رواه مسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ :((لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ))،ولا شك أن مخاطبة الله بالعبد كفر وخروج من الدين إن كان عن قصد وتعمد، ولكن لما كان نطق الرجل لها خطأ كان معذورا بخطئه.
3-الإكراه: وهو إلزام الغير بما لا يريد، ففي هذه الحالة يكون المكرَه في حلٍّ مما يفعله أو يقوله تلبية لرغبة المكرِه دفعا للأذى عن نفسه أو أهله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده ولطفه بهم حيث لم يكلفهم ما يشق عليهم، قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل:106]، وحتى لا يقع الناس في الكفر ويرتكبوا المحرمات عند وجود أدنى ضغط أو تهديد فقد ذكر العلماء الشروط التي يتحقق بها وجود وصف الإكراه المعتبر شرعاً وهي:
أ- أن يكون التهديد بما يؤذي عادة كالقتل والقطع والحبس والضرب ونحو ذلك .
ب- أن يكون المكرِه قادراً على تحقيق ما هدد به؛ لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالقدرة، فإن لم يكن قادرا لم يكن للإكراه اعتبار .
ج - أن يكون المكرَه عاجزاً عن الذب عن نفسه بالهرب أو بالاستغاثة أو المقاومة ونحو ذلك .
د - أن يغلب على ظن المكرَه وقوع الوعيد، إن لم يفعل ما يطلب منه . فإذا اجتمعت هذه الشروط كان الإكراه معتبراً شرعاً .
4-التأويل: وهذا المانع من التكفير إنما يختص بأهل الاجتهاد دون غيرهم من المتقولين على الله بالجهل والهوى، وذلك أن المجتهد قد يترك مقتضى نص لنص آخر يراه أقوى منه، كمن اعتقد من الصحابة حل الخمر مستدلاً بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة:93 ]، فلما رفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتشاور الصحابة فيهم، اتفق عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب(رضي الله عنهما) وغيرهما من علماء الصحابة رضي الله عنهم، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا، فلم يكفرهم الصحابة رضي الله عنهم من أول وهلة لتأويلهم، بل أجمعوا على أن يبينوا لهم خطأ استدلالهم، فإن أصروا قتلوا ردة، فلما استبان للمتأولين خطأ استدلالهم رجعوا وتابوا،والتأويل المعتبر في هذا المقام هو ما كان له وجه في الشرع واللغة العربية، أما إن كان لا يعتمد على شيء من القرائن الشرعية أو اللغوية فهو غير معتبر شرعا كتأويلات الباطنية ونحوهم.
ولو التزم الناس بما قرره العلماء من ضوابط وشروط وموانع للتكفير لما حصل ما يجري في كثير من البـلاد الإسلامية وغيرها من التكفــــير والتفجير، وما ينشـأ عنه من سفـك الدماء المعصومة، وتخريب المؤسسات والمنشآت، وما يـترتب عليه من إزهاق الأرواح البريئة، وإتلاف الأمـوال المعصومة، وإخافة للناس وإرهابهم، وزعزعــة أمنهــم واستقرارهـم، وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهـم وأعراضهم وأبدانهم، وحَــرَّم انتهاكها، وشـدَّدَ في ذلك، وكان مِن آخر ما بَلَّغَ به النبيّ ﷺ أُمَّــتَهُ فقال في خُطبة حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكــم عليكم حرام كحـرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ثم قال ﷺ: ألاَ هَل بَلَّغْـــتُ ؟ اللهــم فاشهد)) متفق عليه.
نسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجمع كلمة المسلمين على المنهج الصحيح منهج السلف الصالح، وأن يـــؤلف بين قلوبنا وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلـى الله وسلم على نبيه محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله تعالى أعلم.
- الموضوع الفقهي
- خطورة التكفير وضوابطه وموانعه في الإسلام
- عدد القراء
- 208