- الباب الفقهي
- العقائد
- المفتي
- الشيخ الدكتور أحمد حسن الطه
- عنوان الفتوى
- حديث الأبدال والأوتاد
- السؤال
- ما هو نص الحديث الذي يذكر فيه الأبدال والأوتاد، والنقباء والنجباء، وما هو حالهم وصنفهم؟ أرجو توضيح ذلك قدر الإمكان.
- الجواب
-
وردت كلمة الأبدال في عدة أحاديث. ذكر بعضها في مسند الإمام أحمد وبعضها عند الطبراني وبعضها عند الديلمي عماد الإسلام وعند الحاكم وابن عدي وأبي نعيم، وذكر الإمام جلال الدين السيوطي طائفة منها في الجامع الصغير، والمنذري في أربعينه(١).
وقد اختلف أهل العلم في هذه الأحاديث من حيث الصحة والضعف، وبعضهم وصفها بالوضع، ومنهم من قال: ليس فيها خبر لا صحيح ولا ضعيف.
فقد ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن علي رضي الله عنه حيث ذُكر أهل الشام عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو بالعراق، فقالوا: إلعنهم يا أمير المؤمنين، قال: لا، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الابدال يكونون بالشام، وهم أربعون رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً يسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب»(٢).
وفي الوقت الذي يقول عنه بعض العلماء أنه ضعيف لانقطاعه بشريح بن عبيد حيث لم يدرك علياً، يأتي آخرون بقول آخر في الحديث، فيقول السخاوي مثلاً بعد أن يستعرض عدة أحاديث في الموضوع: «خبر الابدال له طرق بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة، وأصح مما تقدم كله خبر أحمد عن علي مرفوعاً، ويسرد هذا الحديث الذي تقدم، ثم يقول: رجال الصحيح رجاله غير شريح بن عبيد، وهو ثقة». ويأتي ابن الجوزي ويسرد أحاديث الأبدال ويطعن فيها كلها بالوضع تارة وبالطعن تارة أخرى. ويتعقبه جلال الدين السيوطي: بأن خبر الأبدال صحيح، وربما ادعي الشهرة التي تبلغ حد التواتر المعنوي. حيث أخرجه عن علي أحمد والحاكم والطبراني من طرق تزيد على عشرة.
زاد الحكيم في رواية عن أبي الدرداء: لم يسبقوا الناس بكثرة صلاة ولا صوم ولا تسبيح، ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر ﴿ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(٣)(٤).
وقال ابن حجر الهيثمي في فتاواه: «الأبدال وردت في عدة أخبار، منها ما يصح ومنها ما لا، وأما القطب فورد في بعض الآثار، وأما الغوث بالوصف المشتهر بين الصوفية فلم يثبت».
فأنت ترى أيها الأخ الكريم: أن هذه المسألة جزئية فرعية تكلم عنها العلماء يوم كانت الدنيا تدين لهم وبدينهم، ومع ذلك كان كلامهم من قبيل الترف الفكري. ولم يكن كلامهم فيها نصاً لا يتخطى.
وأحب أن يتأكد السائل ومن ينشد المعرفة: أن هذه المسائل ليست من مسائل العقيدة الإسلامية، فلا الإيمان بها واجب ولا المنكر لها كافر، ولا القول بها كفر أو ضلال.
وأن الهجوم على من يعير لها أهمية، والانشغال بنقضها وإبطالها لا يعود على الأمة بخير إن لم يكن من التهور وإفرازات الهوى. بل يثير الجهلة ويسبب التباغض بين المسلمين.ثم إن الذين يقولون بوجود الأبدال لم يدعوا أن ذلك مما علم من الدين بالضرورة، ولم يحصل إجماع بخصوص هذه الجزئية لا سلباً ولا إيجاباً، فلماذا تعطى المسائل الخلافية هذا الاهتمام؟ ولا هي مما يسأل عنه العبد يوم القيامة، ولا يقبح الجهل بها!!
والانشغال بما اختلف فيه من هذه المسائل حين يحصل بلهجة حادة وعبارات قارصة أحياناً- يحدث آثاراً سيئة من أبرزها التسبب في وجود الكراهية والبغضاء بين المسلمين، ومنها عدم الورع، فإن الهجوم على المخالف في المسائل التي لم يجمع عليها حرام. فالمخالف وإن كان قوله مرجوحاً لا يجوز الهجوم عليه ووصفه بالقبح والتضليل والسخف والتنكر للأدلة طالما كان له شبهة دليل، وربما يكون قوله راجحاً.
ولا ينبغي أن يتجاوز المخالف في التعبير القول: هذا هو الراجح في المسألة، وهو ما تدل عليه ظواهر الأدلة، والأصل عدم التأويل، ولا يخفى الورع أثناء الترجيح. والرفق بالمسلمين واجب وليس من السنة النبوية أن يبالغ (من يرى رجحان ما يذهب إليه) في تعرية مخالفهِ من الفهم والورع، ونعته بالجهل بحكمة التشريع، بل يعتذر له ويحمل كلامه محملاً حسناً إن أمكن وهذه هي أخلاق ساداتنا وأئمتنا، فقد أثر عن بعض فقهاء القرن الثاني حين روي له قول مخالفهِ في مسألة ما، وقيل له أقولك هذا صحيح وقول مخالفك خطأ؟ فقال: قولي صحيح فيما أرى لكنه يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب(٥).
هذه أخلاق العلماء، وأخلاق الصلحاء، الذين يدركون قيمة النعمة الإلهية في هذه الشريعة فيحافظون على وحدة الأمة وتراحمها وحفظ أصول دينها وأسرار قوتها وسعادتها. أما الجهلة واتباع الهوى فلا يفهمون هذا الأسلوب ولا يدركون هذه المعاني، ولا يزنون بهذا الميزان. فأولئك الفقهاء من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين هم قادة الفكر والسلوك وأهل الفقه- رضي الله عنهم- اختلفوا في معظم المسائل الفرعية، ولكن اختلافهم لم يفرز بغضاً ولا كراهية فيما بينهم. لأن اختلافهم في فهم بعض النصوص يعني تعدد وجهات النظر في حكم بعض المسائل، ولكن هذا الاختلاف في المسائل الفرعية مرخص فيه بنص الكتاب العزيز في قوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً ﴾(٦).
والاستنباط في الأصل اللغوي: استخراج الماء من باطن الأرض بالتنقيب والحفر. لكن القرآن الكريم عَبر عن توصل أصحاب الفكر من الفقهاء إلى الحكم بأنه استنباط، فالاستنباط استخراج الحكم باستعمال الفكر، ولما كان الفكر يختلف من شخص إلى شخص- بل يختلف في الشخص نفسه من ساعة إلى ساعة- فاختلاف النتيجة أمر طبيعي عندئذ. في كل مسألة فرعية كان حكمها مكتسباً بالاستنباط (الاجتهاد).
وحين تختلف وجهات النظر في المسائل الفرعية العملية (غير الكلية الأصولية والاعتقادية- فإن القلوب لم تختلف، ولم تختل صفة التقوى عند أصحابها. بل المودة متوفرة وخوف الله تعالى والورع لم ينخرم منها شيء. ألم تعلم أن فقهاء العراق- الحنفية- يرون: أن النية في الوضوء سنة، واستيعاب الرأس بالمسح سنة والترتيب في غسل الأعضاء سنة. ولا يرون شيئاً من هذه فرضاً.
بينما هناك فقهاء يرون ذلك فرضاً. لكن الحنفية يكرهون ترك ما ليس بفرض عندهم، ويرون أن تركه نقص في الوضوء، ويتحاشون تركه، احتراماً لقول من يرى ذلك فرضاً ويقولون: خروجاً من خلاف من أوجبه ينبغي فعله، مع أنه سنة. وما توصل إليه الفقيه من الوجوب مثلاً نتيجة حصلت بالاجتهاد، وكل اجتهاد محتمل للخطأ والصواب والفقهاء الذين اتخذتهم الأمة قادة في الدين احتلوا هذه المنزلة في قلوب المؤمنين لصنفين: العلم، والتقوى. وعلمهم يتضمن قوة العقل وسعة الاطلاع. هؤلاء الفقهاء- رحمهم الله تعالى- يقولون: ما يدور بين الندب والإباحة من الورع فعله. وما يدور بين الوجوب والندب فمن الورع الاهتمام به واعتباره واجباً من حيث العمل. لأن احتمال رجحان وجوبه يلحق الإثم بتاركه. وهكذا كانت نظرة فقهاء الصحابة والتابعين إلى الخلاف في الفروع. أما الأصول فلم يختلف فيها أحد من المسلمين. لأنها محفوظة، وحفظها عنوان قوتهم وسعادتهم. أما الجهلة فلا يدركون ولا يقدرون خطورة القسوة على إخوانهم بسبب الاختلاف في الفروع.
إن معظم الذين يثيرون المسائل الخلافية بين المسلمين ويحاولون أن يقسموهم إلى معسكرات مصابون بمرضين: «الجهل والهوى» أو أحدهما:
أولاً: فالجهل هو الذي جعلهم يحدثون الضجة بين العوام بسبب المسائل الخلافية. لأنهم لا يزنون أعمالهم بميزان الشرع، مع أنهم يساهمون في شقاء العباد، ويثيرون فتناً نائمة تشق الصفوف. إن ميزان الشرع في معالجة الأمور يكون بالنظر في القضية مع ملاحظة القواعد العامة دائماً، وبدون الإخلال بها.
ومن هذه القواعد: «درء المفاسد مقدم على جلب المنافع». فهذه قاعدة عظيمة يتفرع عنها مسائل وجزئيات قد لا تحصى فمنها:
1. الحج فرض، وحين لا تجد المرأة من يحميها ويرعاها من زوج ومحرم ونحوه لا يجوز لها أن تسافر لأن درء المفسدة المحتملة من سفر المرأة لوحدها أهم من المنفعة الحاصلة من حجها. والشريعة الإسلامية اعتنت بالمنهيات- وأبعدت الشخص عنها لئلا يقع فيها- أكثر من اعتنائها بالمأمورات. فيترك الحج من قبلها مع أنه فرض وركن من أركان الإسلام.
2. إنكار المنكر واجب، وحيث يغلب على الظن أن إنكار بعض المنكرات ينشأ عنها مفسدة أعظم شراً من ذلك المنكر فلا تنكر على ذلك درءً للمفسدة الأعظم. فهذان فرضان- الحج وإنكار المنكر- يتركان إذا نشأ عنهما مفسدة أو احتمل نشؤها. فكيف إذا كان ما يثار مما ليس بفرض وقد ينشأ عنه حصول محرم أو يترك ما هو واجب؟
فإذا أردت تحقيق سنة مثلاً واحتمل أن ينشأ عنها محرم أو سقوط فريضة فاترك السنة درءً للحرام وحفاظاً على الفريضة وإلا كانت الخسارة في ارتكاب المحرم وترك الفريضة أعظم من ربح السنة. إن كثيراً من هذه المسائل فروع مختلف فيها وربما مسموح بتركها، لكنها نالَتْ من البعض جهوداً تساوي جهودهم في الأصول أو تفوق، أثمرت تباغضاً بين المسلمين ولو تركت لبقيت المودة والرحمة سائدة. وكم حث الإسلام على وحدة الصف ونشر المودة بين أفراد الأمة. ولكن الجهل دفع تلك الأهداف ثمناً رخيصاً مقابل إقامة بعض السنن وبنوع من التهور والتسرع.
وقدوتنا رسول الله ﷺ أتقى العالمين لكنه ترك كثيراً من الملاحظات حرصاً على ما هو أهم، وشفقة على الأمة:
أ. لما رأى بناء الكعبة قد تقلص إلى الداخل والحجر لم يتم تمنى أن يعاد بناؤها على قواعد إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قال قولته الحكيمة وهو يخاطب أم المؤمنين رضي الله عنها: «يا عائشة لولا حدثان قومِك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحجر... »(٧)، فإنه ﷺ خاف على قومه الفتنة لأن تعظيمهم البيت قديم وإسلامهم حديث العهد فدرءاً للفتنة المحتملة ترك تعديل الكعبة وإتمامها، وآثر التأني.
ب. واستأذن عليه رجل فقال: ائذنوا له (وكان الرجل معروفاً بالجهل والخشونة) فلما دخل عليه ألانَ له القول، قالت عائشة: فقلتُ له يا رسول الله قلت له الذي قلتَ ثم ألَنْتَ له القول، قال: «يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاءَ فحشِهِ»(٨).
فلئلا يفتن الرجل ويعزف هو وربما عشيرته عن الدين- ألانَ الرسول ﷺ له الكلام شفقة عليه من الوقوع فيما يحرم، والانصراف عن النبي ﷺ وسماع كلامه. وصدق الله حيث يقول: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾(٩).
ثانياً: أما الهوى فهو أفدح الأضرار. لأنه كما يقول الحكماء: الهوى عن الخير صاد وللعقل مضاد وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه: أخاف عليكم اثنين: اتباع الهوى وطول الأمل. فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله يُعبد من دون الله ثم تلا الآية: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾(١٠)، فصاحب الهوى منحاز وإن كان ذلك في أمور الدين، ولا يراعي مصلحة ولا يتحاشى مفسدة، وإنما يهمه أن يسود اتجاهه ولو كان هزيلاً، أو يحدث شق الصفوف، وأخطر ما يكون الهوى حين يحصل عند من يتحدث بأحكام الشريعة وأخطر منه لدى من يمارس تنفيذها وبالله المستعان وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله ربّ العالمين.
(١) راجع: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ج3/ 167-170، وكذا كشف الخفاء للعجلوني 1/25-27.
(٢) مسند الإمام أحمد، تحقيق: أحمد شاكر 2/171، وتعليق: عبد الفتاح أبي غدة على المنار المنيف لابن تيمية 136.
(٣) سورة المجادلة: 22.
(٤) فيض القدير 3/170.
(٥) وهذه العبارة تروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ورددها الفقهاء بكثرة.
(٦) من الآية 83/ سورة النساء.
(٧) رواه مسلم.
(٨) رواه مسلم.
(٩) آل عمران: 159.
(١٠) الجاثية: 23.
- الموضوع الفقهي
- حديث الأبدال والأوتاد
- عدد القراء
- 211