والداي توفيا -رحمهما الله تعالى-، فكيف أبرهما بعد وفاتهما؟ بارك الله فيكم.
- الباب الفقهي
- فتاوى أخرى
- المفتي
- الشيخ الدكتور ضياء الدين الصالح
- عنوان الفتوى
- بر الوالدين بعد وفاتهما
- السؤال
- والداي توفيا -رحمهما الله تعالى-، فكيف أبرهما بعد وفاتهما؟ بارك الله فيكم.
- الجواب
-
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فبر الوالدين في الحياة وبعد الممات من الواجبات في الإسلام، وعقوقهما من كبائر الذنوب، وقد أمر الله بذلك في كتابه الكريم في آيات كثيرة، منها قول تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَين إِحْسَانًا﴾ [النساء:36]، وقوله تعالى: )وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً([الأحقاف:15] .
ومنها قوله عز وجل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، [الإسراء: 23،24]، ومنها قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [ لقمان:14]، فقد قرن الله تعالى شكره بشكرهما، فمن لم يشكرهما لا يشكر الله تعالى، ولذا قال ﷺ: ((رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما)). صحيح رواه الترمذي .
فبرهما والإحسان اليهما في الحياة وبعدها من أهم الفرائض والواجبات.
ومن صور برهما وهما في الحياة:
الإحسان إليهما والإنفاق عليهما إذا كانا محتاجين، والعناية بهما، والسمع والطاعة لهما في المعروف، وخفض الجناح لهما وعدم رفع الصوت عليهما والدفاع عنهما في كل شيء يضرهما، إلى غير ذلك من وجوه الخير.
والأم حقها أعظم، كما قال النبي ﷺ لما سئل قيل: ((يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك)) متفق عليه.
وبيَّن عليه الصلاة والسلام أن أحق الناس بالإحسان والبر أمك ثلاث مرات ثم أبوك في الرابعة؛ لأن هي التي حملت وهي التي وضعت وهي التي أرضعت.
صور برهما بعد الممات:
وبر الوالدين لا يقتصر على فترة حياتهما بل يمتد إلى ما بعد مماتهما ويتسع ليشمل ذوي الأرحام وأصدقاء الوالدين؛ فقد ثبت عن النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه سئِلَ: (يا رسول الله: هل بقي عليَّ من بِرِّ أبواي شيءٌ أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: “نعم الصّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصلةُ الرّحم التي لا توصَل إلا بهما، وإكرامُ صديقهما”) صحيح رواه أبو داود، وأحمد في المسند.
ففي هذا الحديث الشّريف يؤكّد النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- حقَّ بِرّ الوالدين بعد وفاتهما، وهذا من فضل الله علينا ورحمته بنا أن جعل بر الوالدين لا ينقطع بموتهما، وإنما يستمر بالدعاء والاستغفار والتصدق لهما، وبصلة أقاربهما وأرحامهما.
ومن طرق بِرِّهما بعد موتهما:
- الصّلاة عليهما، حيث أنَّ صلاةَ الجنازة فيها دعوةٌ بالرّحمة للميّت، ومن أولى صورِ البرِّ للوالدين هو أداء صلاةِ الجنازة عليهما، والدّعاء لهما؛ لأن من معاني الصلاة الدعاء، والإكثار من الاستغفار لهما ليغفرَ الله لهما ويوسِّع عليهما في قبرهما، واختيار أوقات الدّعاء المُجاب.
فقد قال النبي ﷺ: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))رواه مسلم، وروى البيهقي والبزار والطبراني في الاوسط من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ﷺ قال: ((إن الله تبارك وتعالى ليرفع للرجل الدرجة فيقول: رب أنى لي هذه الدرجة؟ فيقول: بدعاء ولدك لك)) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد[10/220]: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة، وهو حسن الحديث وقد وثّق.
وأما قضاء ما تركا من الصلوات فإنه لا يشرع اتفاقا؛ ولفظ الحديث الشريف: ((يصلي عليهما)) وليس يصلي عنهما.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره [17/114]: (وأجمعوا أنه لا يصلي أحد عن أحد ) ، لقوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سعى﴾ [النجم:39] ،وذلك لأن الصلاة من العبادات البدنية المحضة فلا تدخلها النيابة.
- قضاء ما عليهما من دَيْن؛ فقد يكون على الوالدين بعضُ الدّيون لم يؤدِّيانها قبل وفاتِهما، فمن الأولى على الأبناءِ سداد هذا الدَّين لأنّها تبقى في ذمّة الميّت حتى يتمَّ سداده، او يُحّول في ذمتِهم.
- الإكثار من التصدّق عنهما، فأجر الصّدقة تصِل إلى الميّت،والإلتزام بما اتّفقا مع النّاس عليه ولم يستطيعا إكمالَه بسبب الوفاة، وهذا معنى إنفاذ عهدهما المذكور في الحديث الشّريف السّابِق.
- قضاءُ ما عليهما من صومٍ، فإذا مات أحدهما وعليه شيءٌ من الصّوم لعذر المرض او السفر مع تمكنه من القضاء فالأولى بالأبناء تأدية هذا الحقّ استحبابا عند الجمهورأو الإطعام عنه، لحديث ام المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- أن رسول الله –ﷺ- قال: (( مَن مات وعليه صيام صام عنه وليّه)) متفق عليه.
أما المريض المزمن أو تارك الصيام تفريطا وإهمالا بغير عذر فلا يُقضى عنه اتفاقا،لفوات وقته.
- يجوز أداءَ فريضةَ الحجّ والعمرة عنهما، وأداهما عن الميت من أفضل القربات، وينتفع بها الميت المسلم كثيرًا، فقد روى الترمذي في الحديث الصحيح عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (جاءت امرأة إلى النبي ﷺ فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ قال: “ نعم حجي عنها” ).
وعن أبي رزين العقيلي:-رضي الله عنه- أنه أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: “حُجَّ عن أبيك واعتمر” . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح،
- صِلة الأرحام وخاصّةً ما كان من جهة المتوفي منهما، ففي صحيح مسلم وغيره مرفوعا: (إن من أبر البِر أن يصلَ الرجلُ أهلً ودِ أبيه بعد أن يولي).
- إكرام أصدِقائهما وزيارتِهم والتّودد إليهم ورعاية من يحتاج إلى الرّعاية منهم.
والخلاصة:
فمن فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا عدم انقطاع بِر الوالدين بموتهما، وإنما يستمر بالدعاء والاستغفار والترحم عليهما والتصدق لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصلةُ الرّحم التي لا توصَل إلا بهما، وإكرامُ صديقهما.
بل يكون البِرُ أكثر ضرورة بعد وفاة الوالدينأ لأنهما يكونان في أشد الحاجة لعمل صالح، فإن كان الولد صالحا كان بارا بهما وكان عمله موصولا لها.
ويجب على الأبناء ان يكونوا حريصين على جلب الخير إليهما ودفع الشر عنهما في الحياة وبعد الممات؛ لأنهما قد أحسنا إليهم إحساناً عظيماً في حال الصغر وربياهم وأكرماهم وتعِبا عليهم، فالواجب عليهم أن يقابلوا المعروف بالمعروف، والإحسان بالإحسان.
ومن قصر في حقهما قليلا في حياتهما فعليه بالتوبة والندم على ما مضى من تقصير، واستدراك ما يمكن استدراكه وتحصيل ما يمكن تحصيله، بالطرق التي بينها رسول الله ﷺ وكذلك ما جاء بالشريعة الإسلامية الغراء من طرق البِر والاحسان والخير والاكرام، فان الله غفور رحيم.
والله تعالى أعلم.
- الموضوع الفقهي
- بر الوالدين
- عدد القراء
- 238