في بداية شهر نيسان من كل سنة ينتشر بين الناس وفي مواقع التواصل الاجتماعي المزاح بالكذب ويسمّونها كذبة نيسان، فما حكم من يكذب مُزاحا ؟ جزاكم الله خيرا.
- الباب الفقهي
- فتاوى أخرى
- المفتي
- الشيخ الدكتور ضياء الدين الصالح
- عنوان الفتوى
- حكم كذبة نيسان
- السؤال
- في بداية شهر نيسان من كل سنة ينتشر بين الناس وفي مواقع التواصل الاجتماعي المزاح بالكذب ويسمّونها كذبة نيسان، فما حكم من يكذب مُزاحا ؟ جزاكم الله خيرا.
- الجواب
-
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الكذب من سيء الأخلاق، ومن قبائح الذنوب وفواحش العيوب، وقد جاءت كل الشرائع بمنعه والتحذير منه، وعلى منعه اتفقت الفطر السليمة، وهو محرم في شرعنا الحنيف وجاء التحذير منه في الكتاب والسُنة،قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: 105 ] . وقال تعالى: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الأحزاب:الآية 8]، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان:(عجباً والله .. سئلوا وحوسبوا وهم صادقين!! فكيف بالله بالكاذبين ؟).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-عن النبيَ ﷺ قال: ((آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان )، وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: ((إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذابا )).
والكذب محرم مطلقا وفي كل الأحيان والأحوال، إلا ما رخص فيه الشرع الحكيم تحقيقا لمصلحة راجحة ودفعا لمفسدة متحققة وبنطاق محدود، والكذب حرام ولو على الصغار؛ فعن عبد الله بن عامر- رضي الله عنه- قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله - ﷺ- قاعد في بيتنا، فقالت: تعال أعطيك، فقال لها رسول الله - ﷺ-: ((وما أردت أن تعطيه؟)) قالت: أعطيه تمراً، فقال رسول الله - ﷺ-: ((أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة)) رواه أبو داودوأحمد وحسنه الشيخ الألباني ،وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: ((من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة)) رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني.
ولا يستثنى من ذلك حال المزاح؛ بل الكذب فيه محرم أيضاً؛ فعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه- أن رسول الله - ﷺ- قال: ((أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً)) رواه أبو داودوحسنه الألباني.
ويظن بعض الناس أنه يحل له الكذب إذا كان مازحا، وهو العذر الذي يتعذرون به في كذبهم في أول ( نيسان ) أو في غيره من الأيام، وهذا خطأ، ولا أصل لذلك في الشرع الحنيف، والكذب حرام مازحا كان صاحبه أو جادّا، فعن بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ويل له)) رواه أبو داود والنسائي وأحمد والدارمي وصححه الشيخ الألباني.
فالكذب إذن لا يجوز مطلقاً وفي كل الأوقات، لا في أول نيسان ولا في غيره ،وأما أصل هذه البدعة الخرافية، ما هو إلا تقليد أوروبيّ غربيّ أساسه الكذب على الناس في سبيل المزاح ومداعبة الآخرين دون النظر إلى عواقبه السيئة والكوارث والويلات التي تحدث بسببه.
واختلف في أصل هذه الكذبة على وجه التحديد وهناك آراء مختلفة في ذلك، وقد ذكرت بعض الأبحاث أنّ أصله فرنسيّ، وقد بدأت هذه العادة بعدما قرّر الأمير (شارل التاسع) في عام ألف وخمسمائة وأربعة وستين أن تبدأ دولة فرنسا باعتماد تقويم كان يبدأ في الواحد والعشرين من شهر آذار حتّى الأول من شهر نيسان، وفي هذا اليوم يتبادل الناس الهدايا على أنّه اليوم الأول من السنة (رأس السنة)، وفي هذه السنة قرّر الأمير أن يصبح الاحتفال برأس السنة في اليوم الأول من شهر كانون الثاني ( يناير )، وتبعاً لذلك فإنّ بعض الناس كانوا حينها لا يزالون يحتلفون برأس السنة في اليوم الأول من نيسان، وحينها أطلق عليهم لقب ( ضحايا نيسان أو أبريل )، وأصبحت عادة فرنسية المزاح مع الآخرين في هذا اليوم لهذا السبب، ومن ثم انتشرت هذه العادة إلى غيرها من البلدان المجاورة.
بينما يرى باحثون آخرون أن أصل العادة في هذا اليوم يعود إلى ( عيد الهولي) لدى الهندوس في الهند، فقد كانوا يقومون بعمل مهمات كاذبة في هذا اليوم ويكشفون الحقيقة في نهايته، بينما هناك أبحاث أخرى ترى أن أصل الكذبة في هذا اليوم يعود بأنّ هذا اليوم كان مخصّصاً في القرون الوسطى للشفاعة لدى المجانين، حيث يُطلق سراحهم ويشيعون في الأرض، وبغض النظر على الروايات المختلفة لأصل هذا اليوم فإنه قد انتشر الاحتفال بطقوسه في القرن التاسع عشر وما بعده،ومع الأسف انتقلت بدعة كذبة أول نيسان إلى المسلمين.
ومع أن الكذب حرام ومنهي عنه ،فان في هذه البدعة تشبه وتقليد للكفار والمغضوب عليهم إذ لا يجوز تقليد الكفار والتشبه بهم لا في هذا ولا في غيره، لان اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، ولقول النبيّ ﷺ:
( من تشبّه بقوم فهو منهم ) رواه ابو داود وأحمد.
والحوادث والكوارث التي حصلت بسبب كذبة نيسان كثيرة، فمن الناس من أخبر بوفاة ولده أو زوجته أو بعض محبيه فلم يحتمل الصدمة ومات، ومنهم من يخبر بإنهاء وظيفته أو بوقوع حريق أو حادث تصادم لأهله فيصاب بشلل أو جلطة أو ما شابههما من الأمراض،وبعض الناس يتحدث معه كذبا عن زوجته وأنها شوهدت مع رجل فيسبب ذلك قتلها أو تطليقها، وهكذا في قصص لا تنتهي وحوادث لا نهاية لها، وكله من الكذب الذي يحرمه الدين والعقل، وتأباه المروءة الصادقة، وقد رأينا كيف أن الشرع حرّم الكذب حتى في المزاح، وأنه نهى أن يروّع المسلم سواء كان جادّا أو مازحا معه في الحديث أو الفعل، فهذا شرع الله فيه الحكمة والعناية بأحوال الناس وإصلاحهم .
الخلاصة: الكذب محرم مطلقا وفي كل الأحيان والأحوال،وهومن قبائح الذنوب، وفواحش العيوب، فليس في الإسلام كذبة نيسان ولا كذبة بيضاء ولا كذبة سوداء فالكذب كله محرم، إلا ما رخص فيه الشرع الحكيم تحقيقا لمصلحة راجحة ودفعا لمفسدة متحققة وبنطاق محدود، وضرورة حددها العلماء: كما في الحرب؛ لأنَّ الحرب خدعة، ومقتضياتها تستدعي التمويه على الأعداء، وكذلك في الصلح بين المتخاصمين؛ حيث إنَّ ذلك يستدعي أحيانًا أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل طرف وأقواله بما يحقق التقارب ويزيل أسباب الشقاق، وأحيانًا ينسب إلى كل من الأقوال الحسنة في حق صاحبه ما لم يقله، وينفي عنه بعض ما قاله؛ وهو ما يعوق الصلح ويزيد شقة الخلاف والخصام، لقول النبيّ ﷺ: ((لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا)) رواه مسلم، وأيضا في الحياة الزوجية؛ حيث يحتاج الأمر أحيانًا أن يخفي كل منهما عن الآخر ما من شأنه أن يوغر الصدور، أو يولد النفور، أو يثير الفتن والنزاع والشقاق بين الزوجين، كما يجوز أن يزف كل منهما للآخر من معسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس، ويجمل الحياة بينهما. والله تعالى اعلم.
جعلنا الله تعالى من الصادقين، ومن الذين يتحرون الصدق ويعملون به .
والله أعلم.
- الموضوع الفقهي
- المعاملات والأخلاق
- عدد القراء
- 209